من العيب مطالبة الناس بتحمل “سنة خمسة أنفار” أخرى
يمنات
لطف الصراري
في مديرية ماوية بمحافظة تعز، يتذكر الناس عاماً أسود أقرب ما يكون إلى عام الرمادة. لا يتذكرونه بتاريخ محدد بل بــ”زمن التُرك” و “أيام الإمام”. في تلك السنة، التي لا بد أن معظم اليمنيين يتذكرونها مع اختلاف التسميات، تعرضت البلاد لأسوء موسم جفاف، متزامناً مع ظروف حرب تشير بعض الإفادات إلى أنها الحرب العالمية الأولى. قرن كامل إذاً يفصلنا عن أقرب مأساة إنسانية حدثت لليمنيين، قبل أن تتكرر في صورة ملهاة وحشية توثقها عدسات “الهواتف الذكية“؛ لقطات ثابتة وتسجيلات مرئية ومسموعة للجياع والهالكين، تنشر متجاورة مع مئات التعازي اليومية و تهنئات المواليد الجدد، مع أمنيات خالصة بالخير والسعادة… وأوبئة أخرى.
في “سنة الخمسة أنفار” تسبب الجوع بموت الناس أكثر من الحرب. اضطرهم الجفاف لبذر أرضهم أكثر من مرة، لكنهم في نهاية الموسم وجدوا أنفسهم ينتظرون حصاد أرواحهم بدل الحبوب. يقولون إن أكبر ملاك الأرض لم يحصد في موسم الموت ذاك سوى “خمسة أنفار” من الحبوب، و”النفر” هو وحدة قياس يمنية مخصصة لمحاصيل الحبوب منذ العهد السبئي. يساوي النفر ما يقارب نصف كيلو أو 750 جرام على الأكثر، ما يعني أن أفضل محصول لن يزيد عن خمسة كيلوجرامات. و هكذا كان على هؤلاء المحظوظين أن يصنعوا خبزهم سراً، بعد أن يعتقدوا أن الناس قد ناموا. لكن كيف لجائع أن ينام! يقولون أيضاً، إن الجياع كانوا يشمّون رائحة الخبز ليلاً، فيخرجون بحثاً عن كسرة تساعدهم على البقاء أحياء، لكن ما إن يقتربوا من مصدر الرائحة أكثر، حتى يغمى عليهم من شدة الجوع واهتياج معدهم. بعضهم كان يلفظ أنفاسه الأخيرة في تلك الغيبوبة. تصوروا كيف يتساقط طابور من الجياع وهم في طريقهم لتقصي خيط رائحة لفطيرة ما زالت في التنور..!
خلال مائة سنة، هجر المزارع اليمني أرضه كما لم يحدث منذ ألفي سنة، حتى وصل اعتمادنا على قمح أستراليا وأرز الهند إلى درجة الاطمئنان المعيشي، وها نحن نحصد نتائج ذلك الاطمئنان الخادع؛ بإمكان سرب طائرات حربية وبارجتين أن تمنع وصول الغذاء إلينا في لمح البصر. وما على حكومتي ابن حبتور وابن دغر سوى ترديد التحذيرات الدولية من المجاعة، والتهاون في صرف مرتبات ملايين الموظفين. ليت لدينا قادة يدركون أهمية التوجه نحو زراعة الوديان الخصيبة بأنواع المحاصيل الغذائية الكفيلة بسد احتياج السوق المحلية. مضى زمن طويل منذ كانت هناك مؤسسات مختصة فاعلة لتنظيم تدفق المحاصيل الغذائية وضبط أسعارها.
نعيش حالياً أسوأ سنوات شهدها تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، وكأن هذا ليس كافياً لتفعيل الأرض في مواجهة الجوع. رغم اشتداد وطأة الحرب على المواطنين بما ينذر باقتراب الوضع المعيشي نحو الأسوأ فعلاً، تتركز أنظار النخب السياسية والإعلامية والثقافية على ما يدين أو يبرر ساحة هذا الطرف أو ذاك. ينشغلون بترديد أخبار ضحايا الحرب المباشرة ويكتفون بترديد ما تقوله تقارير المنظمات الدولية، بينما لا يلتفتون للتقارير التي تحمل في طياتها بذور حلول للمشكلة الغذائية. أحد هذه التقارير المنشورة مؤخراً، كتبه صحفي ميداني مثابر هو فايز الأشول، وقد تضمن معلومات عن وجود 45 ألف محمية لزراعة الطماطم في محافظة صعدة، أي ما يقارب مساحة 1800 كيلومتر. في محافظة واحدة توجد مساحة كهذه لزراعة الطماطم فقط، ماذا عن بقية المحاصيل، ماذا عن بقية الوديان والقيعان الزراعية في محافظات أخرى؛ من يهتم بما تنتجه وما يمكن أن تنتجه قيعان ذمار ومزارع تهامة، ماذا عن اللواء الأخضر- إب!
في بداية الحرب، تحججوا بندرة الديزل وارتفاع أسعاره، بينما لو تكفلت الحكومة بدعم مخصص شهري من الديزل للمزارعين ضمن خطة يضعها فريق اقتصادي من الخبراء والمهندسين الزراعيين، لكانت أسواقنا تبعث الاطمئنان في النفوس الخائفة من المجاعة. يقولون: على الشعب أن يتحلى بالمزيد من الصبر، وقريباً ستصرخ ملايين الأفواه الجائعة: “لا يجمع الله بين عسرين”. من العيب مطالبة الناس بتحمل “سنة خمسة أنفار” أخرى، ولا يعقل أن الحرب على وشك أن تدخل عامها الثالث بدون أن تفكر سلطات الأمر الواقع بأن الارتهان لمساعدات الخارج لن يشبع الناس، كما لن يجعل المجتمع الدولي أكثر إنسانية.
للاشتراك في قناة يمنات على التليجرام انقر هنا